
أعلام من حاضرة الفرات

الشاعر:”خالد بن محمد توفيق السلامة الجويشي”
ولد في “دير الزور” 28/12/1944، درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس وثانويات “دير الزور” ثم سافر إلى “دمشق” ليحصل فيها على الإجازة في الهندسة الميكانيكيةعام 1968،
عمل بعدها في حقول النفط السورية حيث كان مسؤولا عن تطوير حقول النفط لعقد كامل من عام 1968 حتى عام 1980، ثم في استصلاح الأراضي بحوض “الفرات” حيث شغل منصب نائب المدير العام.
كان عضوا لدى اتحاد الكتاب العرب “جمعية الشعر”..
نشر أعماله في كبريات الصحف والمجلات المحلية والعربية “الأسبوع الأدبي-الموقف الأدبي- المعرفة السورية-المنتدى الإماراتية- الاتحاد والخليج الإماراتية- العربي الكويتية-الجزيرة السعودية- صباح الخير والهلال المصرية – الآداب وسومر والديار اللبنانية – الوحدة المغربية” ودون اسمه مؤخرا في معجم “البابطين” للشعراء العرب.
شارك “الجويشي” في العديد من المهرجانات الأدبية منها:
مهرجان اتحاد الكتاب العرب في “دبي” ، مهرجان جمعية الفنون في “الشارقة”،
مهرجان الجمعية الأردنية الإماراتية،
مهرجان تكريم الشاعر “مروان الخاطر”،
وكانت له زاوية أسبوعية ثابتة في صحيفة “تشرين” السورية، تجول في العديد من الدول مثل: (أمريكا، روسيا، بلجيكا، السويد، فرنسا، اليابان، السعودية، الإمارات، الأردن) وصدرت له المجموعات الشعرية التالية عن اتحاد الكتاب العرب:(صقر قريش وحيداً – اعتذار لعيني زليخة- يوسف الصديق- زهرة الشتاء- عند الضفة المنسية) –
توفي في دير الزور سنة2011
قراءة في ديوان (أناشيد المدن الريفية)
للشاعر خالد سلامة الجويشي
ينقسم النقاد في قراءاتهم للنصوص الأدبية إلى فريقين : الفريق الأول يستبعد تأثير الكاتب وظروفه الحياتية في النص الأدبي الذي أنتجه ويؤكد على قراءة النص من الداخل سواء كان قصيدة أو قصة أو رواية.
الفريق الثاني يستعين بما هو خارج النص الأدبي (شخصية الأديب وظروفه الحياتية) لقراءة النصوص الأدبية التي يتصدون لها كون الأدب برأيهم لا ينفصل عن حياة الأديب وما مر بها من تجارب .
لكن فريقا آخر رأى أن النصوص الأدبية هي التي تحدد للناقد ذلك , وبكلمة أخرى فا لناقد حين يرى أن نصوص الأديب تتعلق بتجربته الحياتية فلا ضير من تحليل منتجه وقراءته في ضوء تجاربه الحياتية.
وأجدني هنا أتفق مع الفريق الأخير في قراءتي لديوان الشاعر خالد السلامة الجويشي المعنون بعنوانين رئيس هو (أناشيد المدن الريفية ) وفرعي جاء عنونه ب(عند الضفة المنسية) ونتساءل منذ البداية هل كانت قصائد خالد السلامة انعكاسا لتجاربه الحياتية وصدى لبوح روحه؟
يقسم ديوان شاعرنا إلى خمس مجموعات من الأناشيد تتعدد رؤاها بتعدد موضوعاتها , هذه الرؤى التي تتضح أكثر كلما أبحرنا في أعماقها واقتربنا من تجاربه الحياتية ، والقارئ لهذه الأناشيد يرى أن عناوينها غالبا تشي بمضامينها ,وأحيانا تكون انزياحية ، وهذا ما يتجلى واضحا في القسم الأول من الأناشيد حيث تطالعنا قصيدته (أنشودة للضفة المنسية) فاتحة هذا القسم التي يغني فيها للجزيرة أجمل الأناشيد :
ياقره تشوك البديعة , ياقره تشوك البهية / يا الزمان الرائع الترف الخضيل / ها أنت تأتلقين مثل صنوبر الغابات تحت الثلج.
وقره تشوك من مدن الجزيرة السورية التي قضى فيها الشاعر سنوات عدة في حقول نفطها حين كان يعمل هناك , ويبدو أنها كانت من الذكريات التي استرجعها الشاعر في قصيدته هذه وتمنى أن تعود تلك الأيام الخصبة لكن هيهات :
تغفو وترقب في المدى المسودّ أندلس المحبة / يدعس السفهاء فوق نهودها البيضاء , / يصطرعون يا ويح الأزاهر إذ تفور دماؤها من مهجة الروح الحبيسة
ويبقى الشاعر حبيس ذكرياته الجميلة عن زمن جميل , فنراه يصرخ في ألم ووجع ناشدا عودته من خلال قصيدته ( أنشودة للحلم المنسي): كان الزمان أزاهرا فاحت وضحكات تؤرجحنا خزامى كركرت / شوقا عزيز الأمنيات / وبكيت ملتاعا / أيا نخل الحويجة كم غفوت على الثرى / تحنو عليّ الريح, تحضنني السنابل
ثم يستفيق من حلمه على واقع النهاية الحتمية لنا وله:
وتفيق من وهم يجلجل تحت أبراج الحديد / لا لن تعود ستموت في ليل المنافي / لا الفرات يبلّ حلقك / لا زريفة تغمض العين / لا غرب الفرات/ يظل ّ قبرك لا ثرى الأحباب يدفئ جسمك البردان.
في القسم الثاني من أناشيده الذي عنونه بـ (أناشيد للوطن والأم والأطفال وللحبيبة المسافرة) تطغى الذاتية على معظم قصائده التي وشت عناوينها بمضامينها، منها قصيدته (ترنيمة الوحيد) : وحدي أعدو في بيداء العمر القاحلة الجرداء
أصغي !!! / لا أسمع إلا نواح الزاغ , حفيف النخل المجرود / وهسهسة الريح على رمل الصحراء…….
وكذلك الأمر في قصيدته المعنونة ب(أنشودة للوطن ) التي قدم لها بمقولة شهيرة لبريخت[ياربّ إن كان الوطن هو الكتابة فوق جلد الوطن بمهماز الطاغية فأسألك المنفى وإن كان المنفى هو الكتابة ضد الوطن فأسألك الوطن)
يقول فيها : وحدي أعدو في بيداء العمر المقفرة الجرداء / أنشق أعطار الماضي / ألثم زهر الآمال العجفاء / أرقب وجهك نجما يتلأ لأ في أحضان الغيم السارب, بدرا يخطو فوق ذرى الغابات ….
وفي أنشودة للام والاطفال نراه يحن إلى أمه المحزونة على فراق الأحبة وينادي :
من يحملني للدار / لأمي تتشح الأسود / ترنو دوما نحو الباب المغلق / علّ الغائب يرجع يوما
كما يحن لأطفاله ويدفع عمره من اجل سعادتهم :
من يحملني للأطفال المنثورين على أهداب الأيام / ادفع عمري كي تشرق بسمتهم .
ويغني للحبيبة المسافرة علها تأتي حتى يكتمل فرحه: يا وجه الفرح المقتول تعالي / حتى أرحل في العينين السوداوين / أعانق وجه الأيام الزهر/ أفتح أبواب الفرح الأخضر
القسم الثالث من الديوان منحه الشاعر عنوانا انزياحيا بامتياز هو (أناشيد المسافر),إذنجد شاعرنا لا يغادر الوطن بل على العكس هو متمسك بكل ذرة من ترابه رغم شعور ه بالغربة الروحية: ففي قصيدته(أناشيد المسافر): التي يتساءل خالد السلامة فيها عن أشياء كثيرة في هذا الواقع أرقته حتى جعلته يلح ويلح في السؤال وهو يجوب دروب القهر: أسافر إلى كوكب القهر / وأسأل كيف استحالت عيون الرجال مهاميز ذل ؟/ وأسأل كيف استحالت / عيون النساء أراجيح عار؟/ أسافر في الزمن المستحيل / وأسأل من كبل الضحكة المشرقة؟ / ومن باع للموت شدو الصغار.
ما في قصيدته (أنشودة للمسافر):فنراه يتجرع مرارتين:مرارة الفراق , ومرارة الغربة, فيحضر الحزن , أحمل وجهك النبيل في مهجتي,حكايتي المريرة التي أغرقني/ زماني العقوق في دمعها, أورثني الحنون / والحريق / لا دمعة في الغربة الخرساء تجيرني.
وقصيدته (أنشودة للأحزان): تعبر عن سيطرة القدر على كل منافذ ودروب سعادة الشاعر: قدر أن تعبر برزخ أحزانك / قدر أن تولج في دنيا أتراحك / أن تتبخر / أن تغدو غيمة حزن أن تمطر. ولا ينسى شاعرنا رصد التحولات المجتمعية وما آل إليه المجتمع من علاقات هشة وخراب روحي ومادي , وقد تجلى هذا كله في قصيدته(أنشودة لواحة الرمل) يقول:
أصبح اللبلاب والسلماس عُرفا / كما يرصد لنا لنا هجرة الكبار (النسور) وكذلك الأنهار والأماني التي غادرتنا باكية: حين تناثرت أحلامنا الخضراء باكية / وصارت دارنا منفى / ترامينا على جمر الغضا وهكذا يسافر شاعرنا في هذا القسم من أناشيده إلى واحات الحزن التي لا تزال خضراء في روحه بعد أن جدبت في هذا الواقع الصقيع,
فنراه يتساءل في (أنشودة للسؤال) بوجع ومرارة :
لماذا هو العمر يمضي احتراقا ؟ / لماذا يفت صبر الفؤاد؟ وتذوي على الرمل أحلى السنين / ولا ينسى أن يشكو لنا الزمان وغدره: وأقعد عند ضفاف شبابي / فيسألني الصحب: أين الطريق؟ / فأبكي , وأبكي لأن الدليل أضاع الطريق نعم أيها الشاعر الرهيف بات كل شيء مزيفا في هذا الوجود. ولكن الشاعر يجد الملجأ والأمن والصدق في صوت أمه والفرات : أشتاق للصدق في صوت أمي / لدفء يعشعش في بيتنا بالفرات.
وحين نواجه قصيدته (أنشودة لصليب الانتظار) تتضح لنا أسباب أحزانه , إنها الأحلام والأماني الضائعة وجفاء الخلان يقول فيها :
آه يا شمس الأماني الضائعات / كلما شط المزار وصحاب العمر خلوني وراحوا قسمه الرابع عنونه ب (أناشيد للحزن) حيث ينشد فيها قصائد تفيض مشاعر حزينة عصفت بروحه في سنوات مضت من عمره ، كان أشدها عمقا في روحه حادثة موت أخته (حذام ) فيفرد لها قصيدة رثاء يحاول من خلالها أن يصب الماء على حريق حزنه ليهطل هتونا من الدمع تجلى لنا في قصيدته(أنشودة لحذام):
أذاكرة أيا أختاه / رحيلك كان أحلاما شتائية / وليلا من ليالي الدير ينثر حزنه فوق الفرات ونرى أنه لشدة جزعه على موت أخته يتخيل أنها حية لم تمت في محاولة بائسة منه علّ روحه تهدأ بهذا الوهم فيقول: هل أنت صاحية حذام / أم أنت نائمة ترى حدر الرخام وفي أنشودة للأم :
يخاطب الشاعر أمه باكيا يائسا صامتا ((يكظم خلف الباب أحزان المساء)) ومتسائلا عن حلم وطفولة ضاعتا في دروب الدير: حالما كنت , وها إني أتيت / متعب القلب رجعت لكن عودته ستكون إلى حضن أمه الدافئ , وعينيها الطافحتين بالآمال: خبئيني , دفئيني / إن في عينيك واحات رجاء ..
ومن قصائد هذا القسم سيمفونية رثاء عزفها الشاعر للمحبوبة التي غادرته وتركته دون سلام أو كلام مخلفة جرحا على الشغاف وصقيعا بين الضلوع , ونهرا من الدموع وكل ذلك تجلى في قصيدته (أنشودة للتي لن تعود):
رويدك مهلا / أكان يجئ زمان الأفول لو أني التقيتك قبل الرحيل / لو أني أتيت .. أكنت مضيت / تروحين , تمضين / لا كلمة لا سلام / ولا همسة من جنون الضفاف .
وهنا الشاعر لا يسمي الموت باسمه ويتجنب ذكره, بل وإمعانا منه في الحلم وتكذيب الواقع يخاطب محبوبته ب(النائمة) في تصوراته:
تنامين , لا الصمت صمت / ولا الحزن حزن / ولا الدمع دمع / وأحلى العشيات غابت ونثرها الموت عبر الرياح رويدك …مهلا .
لكن القدر كان أقوى من أحلامه فيعترف بوجود(الموت) هذه الحقيقة التي نقف أمامها جميعنا محطمي الأسلحة.
ويتابع شاعرنا في هذا القسم أناشيده الحزينة في قصائده (أنشودة لامرأة حزينة)و(أنشودة للدم المطلول ) وغيرها.
في القسم الخامس والأخير ينشد للجزيرة والفرات أجمل القصائد ، يقول في أنشودة (للرقة) : وأجر خطوي خلف زوبعة الغبار / بالضبط كنت هنا بباب الرقة الزهراء / بالضبط كنت هنا على ثغر الفرات / أغفو..
وكذلك نراه يغني لبعض قرى الجزيرة كقصيدته :أنشودة للخويبيرة وأنشودة لعبد العزيز وأنشودة لجبل سنجار، إذ يخاطبه محزونا لما آل إليه الواقع:
/ إيه..أيا سنجار ماهذي الطواويس التي من بؤسنا اكتنزت ومن أشلائنا / من حزننا المكظوم يقطر في البيوت المطفآت الضوء من طول الغياب ترتاح في سآم على الفرش المطرزة الوثيرة . وقبل النهاية يودعنا الشاعر بقصيدة يصف فيها حال الفرات بقوله:
يقولون يبكي الفرات التياعا / وترعبه الغربة الموحشة / وأنت ربيب الفلاة / أأنت بكيت؟ / محال أتبكي الغصون إذا اتخذتها العصافير بيت / فكيف تهون وكيف تهيم / وكيف يقودك وهمٌ بهيمُ. وهكذا أنشدنا خالد سلامة الجويشي قصائد كانت معظمها بوحا روحيا لصدى سنوات عمره ورؤى عميقة لواقع عاشه بكل أبعاده ولا نزال نعيش بعضه في هذا الكوكب القاهر حملتها إلينا صوره الشعرية المتنوعة.
وأراني أوافق الناقد (جميل حسن)رأيه في خالد السلامة وشعره, حين قال في كتابه:
( ( قراءات في الشعر السوري الحديث)) : “هذا الشاعر استثنائي بكل معنى الكلمة استثنائي بثقافته المتنوعة استثنائي بطريقة كتابته للشعر,شعره منساب كالنهر المتدفق …..” وأضيف بدوري استثنائي بإنسانيته استثنائي بعطائه وبقوة إرادته.
بقلم الناقد الأدبي: ياسر الظاهر