سكان الجزيرة الفراتية
تُعدُّ الجزيرة الفراتية من أقدم الأقاليم التي سكنتها قبائل العرب, سواء كانوا من أهل الحضر أم من أهل المدر, إذ وجدوا فيها ما يلائم ويصلح لمعاشهم البسيط ولرعي مواشيهم, فيتنقلون فيها من مكان إلى آخر من دون أن يتعرض لاستقلالهم أحد أو يتدخل في أمورهم غير شيوخهم وأمراء عشائرهم.
وتركوا أثرهم الواضح وطابعهم العربي المميز في حياة هذا الإقليم, وكان لهم نتاجهم الأدبي العربي الخالص, وأبرز ما وصلنا منه شعر الشاعر العربي التغلبي “عمرو بن كلثوم” أحد أصحاب المعلقات السبع وهو من مواليد الجزيرة الفراتية, وتدل أعلامها وأسماء مواضعها على قدم الوجود العربي فيها كعربايا أوبيت عربايا في السريانية, وهو اسم لثلاثة أماكن يسكنها العرب منذ القدم أخصها مدينة نصيبين وأطلقت المراجع الفارسية على منطقة نصيبين وما حولها اسم “عربستان”, أي بلاد العرب.
والأسماء المتداولة بين العرب منذ صدر الإسلام لأقسام الجزيرة التي ثبتها البلدانيون والمؤرخون العرب القدامى بعد ذلك في مؤلفاتهم هي ديار ربيعة وديار مضر وديار بكر ويشير اسمها إلى أصل ساكنيها, وهو دليل واضح على أن العرب يشكلون أكثرية سكانية في تلك المناطق منذ القدم و إن سكنى القبائل العربية في الجزيرة الفراتية يعود إلى عدة قرون قبل ظهور الإسلام, وقد أقامت بعض القبائل العربية إمارات مستقلة في الجزيرة, منها إمارة الحضر التي حكمتها سلالة عربية مدة ثلاثة قرون, وكان أول حكامها أميراً عربياً اسمه “سنطروق” ورد ذكره في نقوش اكتشفت هناك, ونصت على أن أباه يدعى “نصراً” وأن لقبه “ملك العرب” واستناداً إلى الطبري فإن حكام هذه الدولة كانوا من قبائل “قضاعة” ويروي ياقوت الحموي (إن بني قضاعة لما افترقوا سارت قبيلة منهم إلى أرض الجزيرة, وعليهم ملك يقال له الضيزن بن جهلمة أحد الأحلاف, فنزلوا في مدينة “الحضر”, واستمرت مملكة الحضر حتى حكم الملك الساساني سابور الأول(241-272م)[1].
و من الهجرات العربية القديمة التي أعقبت هجرة الكنعانيين والعموريين وانتشرت في أنحاء الهلال الخصيب هجرة الجماعات التي سميت “الآراميين”, ولقب آرام وهو اسم جغرافي أطلق على الأرض المرتفعة شمال شرق سورية, أي إقليم الجزيرة, ثم عمّ الاسم كل القبائل العربية التي تنتمي إلى أصل واحد, واستوطنت في تلك المنطقة. وينسب الآراميون في “الكتاب المقدس”(بحسب النظرية التقليدية للأنساب العربية) إلى آرام بن سام بن نوح, وهم قبائل رحَل توزعوا بين أرض الجزيرة الفراتية وسورية, ويظهرون في النقوش البابلية والآشورية التي ترجع إلى القرن الرابع عشر “ق.م” باسم (أخلامو) أو(آريمي) وإن أول ذكر للعرب القدامى الآراميين ورد في رقيم (نرام سن) الأكادي[2].
و قد تميزت هجرات الأقوام العربية القديمة بضخامة أعدادها, وكثرة قبائلهم وخصوصاً بين القرن الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد, ونشأت بينهم وبين عرب وادي الرافدين صلات كثيرة, أثرت في كلا الجانبين تأثيرات قوية[3].
وفي العصر الروماني, لعبت تدمر دوراً مهماً في تاريخ المنطقة, وقد استطاعت الزباء التي أعقبت زوجها في الحكم أن تسيطر على منطقة وادي الفرات, وأقامت فيها مدينة عظيمة عرفت باسم حلبية وزلبية, غير أن نفوذها لم يدم[4].
وتجمع المصادر والدراسات التاريخية أن زنوبيا “الزباء” هي ابنة لعمر بن الظرب بن حسان بن أذينة العميلقي الذي كان سيداً على عرب بلاد الرافدين و جزءاً من سورية, والمهم في هذه المصادر أن والد زنوبيا من أصول عربية لا يرقى إليها الشك[5]. وقد استوطنت قبيلة تغلب العربية النصرانية في منطقة الجزيرة، منذ العصر الجاهلي، وكانت تغلب تسكن في هضاب تهامة مثل سائر قبائل ربيعة، ثم انتشرت بسبب تكاثرها وسطوتها فسكنت الحجاز ونجد والبحرين، ثم انتقلت إلى الجزيرة الفراتية بعد اقتتالها مع قبيلة بكر بن وائل، وفي هذا الإقليم توجد أنهار عظيمة كالفرات ودجلة والخابور وغيرها، ولم تكن هجرة تغلب دفعة واحدة أو خلال فترة واحدة، ولكنها كانت على دفعات وخلال فترة طويلة، وكانوا أول من ينزل الجزيرة عنوة ويستوطنوها وهذا ما دعا عمر بن كلثوم التغلبي أن يفخر بأمجاده ويقول في معلقته:
ورثنا مجد علقمة بن سيف | أباح لنا حصون المجد دينا |
ويريد من قوله أن جدهم علقمة بن رباح أباح لهم حصون غيرهم قهراً وعنوة، وكانت هجرتهم بعد حرب البسوس، وعبادتهم في الجاهلية الأصنام كسائر القبائل العربية[6]. و بدأ دور تغلب في التقلص بالجزيرة الفراتية بعد القرن الثاني الهجري، فقد أرسل هارون الرشيد عامله، روح بن صالح لجمع الصدقات فتمردت عليه وقتلته، فنكل أخوه حاتم ببني تغلب عام (171هـ / 787م)، وهدأ غيظهم مدة يسيرة، فلما ثار الوليد بن طريف الشاري الخارجي وقفت تغلب إلى جانبه، وقتل على شاطئ الخابور، فقالت أخته في قصديتها المشهورة:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً | كأنك لم تحزن على ابن طريف |
وقد هاجر التغالبة إلى بلاد الروم شمالاً بعد أن اعتنق معظمهم الإسلام، بينما هاجر الكثير منهم في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) إلى البحرين مناطقهم الأولى، حيث اصطدموا مراراً مع بني سليم كما اصطدموا مع عقيل بن عامر بن صعصعة، واشتركوا في حركات القرامطة، ولا يستبعد أنهم شاركوا في هدم المدن الفراتية (الرحبة – دير الزور – الرقة)[7]. وعندما زار شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية آنذاك دير الزور (أرض طي وتغلب) سنة 1948م، رحب به الشاعر الكبير محمد الفراتي قائلاً:
مدحتك لا أرجوك جاهاً ومنصباً | ولي فوق هام النجم جاه ومنصبُ | |
ولكن عرتني هزة عبشمية | حداني إليها من علا المجد يعربُ | |
فطأ هامة الجوزاء تيهاً فقد مشت | إليك بدير الزور طيٌّ وتغلبُ |
لقد وصل الفتح الاسلامي بين عامي639و641 م إلى أقصى شمال شرقي سورية[8].
و تواصلت هجرات القبائل العربية من ربيعة ومضر وبكر(قبل الفتح الإسلامي وبعده), وتقسمت لهم و بهم الديار, فديار مضر هي الواقعة غرب نهر الخابور, وديار ربيعة شرقه, أما منطقة الشمال في الجبال فحملت اسم “ديار بكر”[9]. وأضفت على المنطقة كلَها مسحتها العربية بطابع جديد, وتعزَّز وجودهم بهذه المنطقة من أرض العرب[10]. ثم ازداد انتشار القبائل العربية, وبقيت محافظة على تشكيلها وتنظيمها وقوتها وسيادتها[11].
وأصبحت الجزيرة الفراتية في ظل العباسيين محطة مهمة للقوافل التي كانت تذرع الطريق بين بغداد والرقة, وسادها الرخاء والازدهار طيلة الحكم العربي.. واشتهرت المنطقة بزراعة القطن ومدت أرمينيا والموصل به[12].
وحظيت القبائل البدوية العربية في الجزيرة والفرات بأهمية سياسية أكبر مع انهيار الخلافة العباسية في نهاية القرن التاسع الميلادي[13]. واستطاع أبو الذؤاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد أن يؤسس دولة عربية, سميت بدولة بني عقيل وبني المقلد وآل المسيب, وهي “تآلف” من بني عقيل وبني كلاب وبني نمير وبني خفاجة وكلهم من عامر بن صعصعة وبني كهلان, وكان انتشارهم ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات[14].
واتسمت هذه الفترة بالنزاعات الداخلية وتبدل الحكام المستمر وارتفاع الضرائب وانعكس ذلك سلباً على الزراعة فهاجر السكان من الأرياف إلى المدن في العديد من المناطق[15].
فقرات المراجع المشار إليها في البحث مثبتة في كتاب السيرة الذهبية …