
1- كان يستهويني النظر إلى المدحلة ومراقبتها والتعجب من هذه المكنة الأسطورية القادرة على تهشيم كل شيء تحت عجلاتها الفولاذية الجبارة ، لست وحدي فقط ،
عندما كنا أطفالاً نتجمع ونراقب بشغف عمل هذه الآلة وقدرة قائدها على التحكم بها.
و بقيت بذاكرتي مشاهد أبعد ما تكون عن المدحلة ووظيفتها ألا وهي التفاني والإخلاص في العمل وعلاقة الناس ببعضها البعض في ذلك الوقت.
في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم كانت عملية تعبيد الشوارع عملية معقدة وشاقة وتكاليفها باهظة فقد كان ينظف ويمهد الشارع المراد تعبيده بواسطة “المدحلة” ثم يرصف بالأحجار الكلسية البيضاء بعد تكسيرها لتقوم المدحلة مرة أخرى بالمرور فوقها عشرات المرات حتى تأخذ مكانها الصحيح داخل الأرض, ومن ثم يرش الشارع ب “القير السائل” كي تتماسك الأحجار, ثم يأتي بعدها طبقة الزفت, ويدحل حتى يصبح الزفت صلباً, وهذه الطريقة في التعبيد تضمن سلامة الطريق لعشرات السنين دون أن يتأثر بالعوامل الطبيعية وغيرها ..
كنت أراقب العمال والعاملات وهم ينقلون الحجر الأبيض من الكسارة بواسطة الزنابيل وكانت الورشة تعمل كخلية نحل واللافت للنظر أن المرأة في تلك الفترة كانت تشارك الرجل و تساهم بدور كبير في هذا العمل الشاق وأغلب النساء يأتين من حلب وقراها للعمل مع المتعهدين ….
خلال فترات استراحة العمال القصيرة يتسابق سكان الحي في تقديم الماء البارد والشاي والفطور للعمال, وهذا يدل على الكرم والسخاء الذي كانوا يتميزون به أبناء دير الزور. وتقديرهم للعامل وجهوده, ويعتبر عاراً إن خرج عامل من بيتك دون اكرامه (تفطره أو تغديه)

2- لا تزال رائحة الزفت ( القير ) ماثلة في أنفي رغم مرور عشرات السنون عليها
ففي كل زاوية نجد برميلاً من الزفت السائل وقد أوقد النار من تحته. (وتصبح الجدران المجاورة له سوداء وتضلل المدينة غمامة سوداء لأيام وأيام ).
ومن عيوب هذا الزفت أنه لا يقاوم حر الدير ففي الصيف تغوص فيه الأحذية ولا سيما النسائية وترتسم عليه النعال وقد يلتصق ( الكلاش ) فيه فيتقطع أو يتعثر صاحبه. والغريب أن بعض النسوة يحببن رائحة القير ويتخذن منه علكة .
هامش: “في طفولتنا نأخذ العصي الخشبية ونغمس قسماً منها في البرميل ونخرجها لتبرد ونكرر العملية مرات ومرات حتى تصبح دبوسه (جناية) والبعض منا يضع فيها المسامير”
..جودت السلمان